وبداية الأمر أن أبناء يعقوب عليه السلام كانوا في هذه الفترة يترددون على مصر لقصد التجارة وطلب القوت كالكثير من الكنعانيين، فتعرفوا على أخيهم يوسف عليه السلام الذي كان في ذلك الوقت أمينا على خزائن مصر فأكرمهم وطلب منهم أن يحضروا جميعا ومعهم أبوهم يعقوب عليه السلام إلى أرض مصر ليعيشوا فيها ويهجروا فلسطين، وقد لبَّى يعقوب طلب يوسف عليه السلام فحضروا إلى مصر وكان عددهم ستا وستين أو سبعا وستين نفسا{1} سوى نسوة أولاده.
وقد أكرم يوسف عليه السلام مثوى أبيه وأخوته ورقَّق عليهم قلب ملك مصر في ذلك الوقت، وطلب بنو إسرائيل من ملك مصر أن يسكنهم في أرض جاسان{2} فاستجاب لهم وقال ليوسف: (أبوك وأخوتك جاءوا إليك أرض مصر ففي أفضل أرضها أسكن أباك وأخوتك ليكونوا في أرض جاسان، فأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في أرض مصر وفى أفضل الأرض وعال يوسف أباه وإخوته وكل بيت أبيه بطعام على حسب الأولاد )
ذكر السدى ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي من أجله قدم إخوة يوسف بلاد مصر؛ أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع سنين المخصبة ثم تلتها السبع السنين المجدبة وعمَّ القحط بلاد مصر بأكملها ووصل إلى بلاد كنعان وهى التي فيها يعقوب وأولاده؛ فحينئذ احتاط يوسف أكثر للناس في غلاتهم، وجمعها أحسن جمع.
وعليها فقد ورد عليه الناس من سائر الأقاليم يمتارون{3} لأنفسهم وعيالهم؛ فكان لا يعطى الرجل أكثر من بعير، أما هو فكان عليه السلام لا يشبع نفسه ، وكان في جملة من ورد للميرة أخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطى الناس الطعام بثمنه فأخذوا معهم بضاعة يستبدلون بها طعاما، وركبوا عشرة نفر واحتبس يعقوب عليه السلام عنده بنيامين شقيق يوسف وكان أحبَّ ولده إليه بعد يوسف.
فلما وصلوا مصر ودخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورياسته؛ عرفهم حين نظر إليهم وهم له منكرون أي لا يعرفونه لأنهم فارقوه وهو صغير وباعوه للسيارة (القافلة) ولم يعرفوا أين ذهبوا به؟ ولا كانوا يظنون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم وشرع يخاطبهم فقال لهم كالمنكر عليهم{4} : ما أقدمكم إلى بلادي؟
فقالوا : أيها العزيز إنا قدمنا للميرة. قال: فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي الله، قال: وهل له أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا أثنى عشر فذهب أصغرنا فهلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه، وبقى شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه (أي لينشغل به أو يُذهب به الحزن عن نفسه ).
وروى ابن وكيع عن السديّ ما يشبهه ونهايته قال يوسف: فكيف تـخبرونـي أن أبـاكم صدّيق وهو يحبُّ صغيركم دون الكبـير؟ ائتونـي بأخيكم هذا حتـى أنظر إلـيه فإنْ لَـمْ تَأَتُونِـي بِهِ فَلا كَيْـلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ، قالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أبـاهُ وإنَّا لَفـاعِلُونَ، قال: فضعوا بعضكم رهينة حتـى ترجعوا فوضعوا شمعون، وفى النهاية أمر يوسف عليه السلام بإنزالهم وإكرامهم
وهنا سؤال هام له علاقة بسبب استمرار تواجد بني إسرائيل بمصر من بعد يوسف وأبيه؟ ألا وهو: من الذي كان يحكم مصر عندما وصل إليها يعقوب وبنوه عندما استدعاهم يوسف عليه السلام؟ يقول المؤرخون: إن الذي كان يحكم مصر عندما هاجر إليها يعقوب وذريته في حوالي القرن السادس عشر ق م هم الهكسوس.
والهكسوس كانوا مستعمرون أجانب، كانوا جماعات من الرعاة نشأوا في آسيا ثم دخلوا مصر على أثر المجاعات التي حلت ببلادهم وانتهزوا فرصة انحلال الأسرة الثالثة عشرة الفرعونية وكثرة خلاف ونزاع الأمراء فاستولى الهكسوس{5} على السلطة في مصر السفلى (الدلتا) وحكموا مصر على امتداد عهد أربع أسر من الأسر القديمة التي حكمت حوالي سنة 1675-1570ق م
{1} فصل فى الملل والأهواء والنحل لإبن حزم الظاهرى. {2} اختلف علماء الآثار في تحديد المنطقة التي أقام بها أسباط يعقوب عند مجيئهم إلى مصر، منذ حوالي 34 قرناً مضت. وتطلق التوراة اسم جاسان على مكان سكنى اخوة يوسف، وقد أوردت التوراة اسم «جاسان» على أنه أرض خصبة تقع شرق الدلتا المصرية بالقرب من الحدود، وهي المنطقة التي سمحت السلطات المصرية لبني إسرائيل بالإقامة فيها عند نزوحهم إلى مصر. {3} الميرة : جلب الطعام، وقال البعض جلب الطعام لبيعه. {4} ذكره السدى وغيره {5} الهكسوس والعماليق: هم أقوام من البدو ولم يكونوا من جنس واحد بل كانوا خليطا من قبائل متعددة.ممن كان يقطن في بلاد الشام وبين النهرين" ، وكان المصرين القدماء يطلقون اسم (هكا سوس) على ملوك الهكسوس ، في حين كانوا يطلقون اسم (العامو) أو (العاموليق) على شعب الهكسوس البدوي.
وفاة سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وطرد الهكسوس ومخاوف بنى إسرائيل
عاش بنو إسرائيل في مصر مستوطنين أرض جاسان ودفعهم إلى المكث في مصر ما اكتسبوه من خيرات وما نالوه من أمن واستقرار بعد طول ترحال ومجاعات حلَّت بهم قبل ذلك، وساعدهم في ذلك تعاونهم مع الهكسوس حكام البلاد الأغراب عن مصر أيضاً.
ودارت الأيام ومرت السنون وكان يوسف قد تزوج زليخا بعد موت زوجها، فولدت له إفرايم أو إفراثيم ومنشا ورحمة، وإفرايم هو جد يوشع بن نون؛ فتى موسى في سورة الكهف،وولي عهد نبي الله موسى عليه السلام من بعده على بني إسرائيل، وهو من قادهم لدخول الأرض المقدسة بعد انقضاء فترة التيه فيما بعد، ورحمة وكانت زوجة أيوب نبي الله.كما قيل
وما زال بنو إسرائيل يتكاثرون ويتزايدون .. ثم قبض الله يعقوب عليه السلام وهو ابن مائة وأربعين سنة كما قيل، فحمله يوسف فدفنه ببلاد فلسطين، عند تربة إبراهيم وإسحاق كما أوصاه ، وبعد حوالي عشرين عاماً تقريباً قبض الله يوسف وعمره حوالي مائة وعشرون عاماً
واختلف الناس وتشاجروا أين يُدفن لما يرجون من بركته، حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرُّ الماء عليه ثمّ يتفرع إلى جميع ربوع مصر، فيصيبون جميعاً من بركته، ففعلوا، وجعلوه في تابوت من الرخام، وسد بالرصاص وطلي بالأطلية، وطرح في النيل نحو مدينة مَنْفَ، التماسا لبركته على مصر ونيلها{1} كما أسلفنا
وقد نعم بنو إسرائيل بحياة آمنة رخيَّة طوال حكم الهكسوس الغرباء عن مصر، فلما تمكن (أحمس) من الانتصار على الهكسوس وطردهم من مصر وأسس الأسرة الثامنة عشرة في القرن السادس عشر حوالي 1570 أو 1580 ق م، بدأت المخاوف تراود بني إسرائيل من نظام الحكم الوطني الجديد
ثم لما قامت الأسرة التاسعة عشرة التي من بين ملوكها ( رمسيس الثاني) جاهر المصريون بعداوتهم لبنى إسرائيل وأخذوا ينزلون بهم أشد الضربات وألوان العقوبات وذلك لأنهم شاهدوا منهم عزلة وغرورا واستلابا لأموالهم بطرق خبيثة ورأوا منهم أيضا تواطأ مع الهكسوس ضد أبناء الأمة الأصليين ومحاولات لقلب نظام الحكم القائم{2}
ويصف المؤرخ الدكتور أحمد بدوى علاقة المصريين ببني إسرائيل في تلك الفترة فيقول: { من الثابت في تاريخ مصر بناء على ما جاء في كتب السماء من ناحية وما شهدت به آثار الفراعنة من ناحية أخرى أن ( العبرانيين ) قد عرفوا مصر منذ أيام الدولة الوسطى على الأقل يجيئوها أول الأمر لاجئين يطلبون الرزق في أرضها ويلتمسون فيها وسائل العيش الناعم والحياة السهلة الرضية بين أهلها الكرام
وكانوا أيضاً يجيئوها وهم أساري في ركاب فرعون كلما عاد من حروبه في أقاليم الشرق ظافرا منصورا فينزلهم حول دور العبادة يخدمون في أعمال البناء ويعبدون أربابهم أحرارا لم يكرههم أحد على قبول مذهب أو اعتناق دين، وتطيب لهم الإقامة في مصر وتستقيم لهم فيها أمور الحياة
ثم تنزل بالمصريين بعض الشدائد وتحل بديارهم بعض المحن والنوائب فيتنكر لهم بنو إسرائيل ويتربصون بهم الدوائر، ويعملون على إفقارهم وإضعاف الروح المعنوية بين طبقات الشعب ابتغاء السيطرة على وسائل العيش في هذا القطر ليفرضوا عليه سلطانهم تارة عن طريق الضغط الاقتصادي وأخرى عن طريق الدين والعقيدة .} انتهى
وهذا يشرح لك أيها القارئ السبب لماذا كان أهل مصر ينظرون لهم نظرة دنية؟ لأنهم كانوا يأتون إما للعمل بحثاً عن الرزق أو أساري تحت سيف الذل فيسخرهم المصريون في أعمال الأسرى، والفترة القصيرة التي نعموا فيها بحياة كريمة كانت أيام يوسف ويعقوب وتحت حكم الهكسوس.المستعمرين
قال صاحب ( تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ) : والراجح أن حالة بني إسرائيل تبدلت بعد تقويض حكم الهكسوس في القرن السادس عشر ق م وقيام الإمبراطورية المصرية ويستدل من أوراق البردي المذكورة أن تسخيرهم واضطهادهم قد بلغ الذروة في عهد رمسيس الثاني أعظم ملوك الأسرة التاسعة عشر.
وفى هذه الحالة المضطربة من تاريخ بني إسرائيل في مصر وأثناء تلك الإضطهادات التي بلغت ذروتها وفى خضم تلك النكبات . وخلال تلك البلايا والمصائب التي كانت تنزل ببني إسرائيل من فرعون وجنده أراد الله سبحانه أن يمن عليهم وأن ينقذهم مما هم فيه، فأرسل لإنقاذهم وهدايتهم موسى عليه السلام ، ولد نبي الله موسى عليه السلام، والله أعلم حيث يجعل رسالته
{1} مروج الذهب ومعادن الجوهر، وشجار الناس أورده الثعلبي في تفسيره. {2} لا تنس أن الهكسوس والإسرائيليين تشابهوا مع بعضهم في أنهم قدموا من خارج مصر هرباً من القحط وبحثاً عن الحياة الرغدة، وأقاموا بمصر مستعمرين ( الهكسوس) أو مستوطنين( الإسرائيليين)! فتمكنوا فيها وصاروا من ذوى الشأن وهم ليسوا من أهلها أصلاً
صبر جميل عضو جديد
عدد المساهمات : 35 تاريخ التسجيل : 13/02/2015 الموقع : منتدى انور ابو البصل الاسلامي
موضوع: رد: بداية علاقة بنى إسرائيل بمصر تاريخياً الجمعة فبراير 13, 2015 2:57 am
دائما متميزون في الاختيار سلمتم على روعه طرحكم نترقب المزيد من جديدكم الرائع دمتم ودام لنا روعة مواضيعكم